سورة الأنعام - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}.
التفسير:
تعرض هذه الآيات ما كان عليه مشركو مكة من ضلال وعناد، في لقائهم للدعوة الإسلامية، ووقوفهم منها هذا الموقف العنادىّ، الممعن في العناد والتحدّى.. فقد ركبوا رءوسهم، واتبعوا أهواءهم، واعتصموا بما هم فيه من شرك وضلال.. وهكذا كل من يلقى الأمور بظهره، وينظر إلى الأشياء بعين هواه، لا يرى الحقّ أبدا، حيث لا يستمع لكلمة ناصح، أو يستجيب لدعوة داع.
وهؤلاء المشركون.. لن تتغيّر حالهم أبدا، ولن يتحولوا عمّا ركبهم من شرك وضلال، ولو جاءهم النبىّ بكل آية.
وقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يكشف عن هذا العناد الذي انعقدت عليهم قلوب الكافرين من أهل مكة، وأنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو نزّل عليهم كتاب من السماء، مكتوب في قرطاس يرونه، ويلمسونه بأيديهم.
والمراد بالذين كفروا هنا، هم الذين كتب اللّه عليهم الشرك من مشركى مكة، الذين لم يدخلوا في الإسلام، وماتوا على الكفر.. وهم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [6: البقرة] فالخطاب في قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} لا يراد به جميع المشركين من أهل مكة، الذين ووجهوا بهذا الحكم، وإنما يراد به تلك الجماعة التي ظلت سادرة في غيها وضلالها، إلى أن ماتت على كفرها وشركها.
وقوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} هو من مقترحات هؤلاء الكافرين الذين ماتوا على كفرهم.. إنهم يأبون أن يقبلوا إنسانا بشرا يحدّثهم عن اللّه، ويجىء إليهم بكلماته.. وقد قالها من قبل أهل ثمود، قوم صالح عليه السلام، كما أخبر القرآن الكريم عنهم: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [23- 25: القمر] وهذا الذي يلقى به المشركون النبىّ من تحدّ وعناد، باقتراحهم أن يجىء معه ملك من السماء، يزكّيه عندهم- هو من بعض ما كانوا يقترحون، مما تمليه أهواؤهم، ويدعوهم إليه ضلالهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا} [90- 93: الإسراء].
وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى على مقترحهم هذا بقوله: {وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} فنزول الملك يعنى أنه آية محسوسة، ظاهرة قاهرة، لا مجال للابتلاء والاختيار فيها، فمن أنكرها فهو منكر لوجوده كله، ظاهرا وباطنا، ومن كان هذا شأنه فقد استحق أن يؤخذ بجريرته، دون مهل لابتلاء أو اختبار بعد هذا.. ومن أجل ذلك، كانت المعجزات الحسيّة التي يحملها الأنبياء إلى أقوامهم، تحمل معها نذر الإهلاك لهم، إذا هم كذبوا بها، كما كان ذلك في عصى موسى، التي كان الغرق جزاء كل من كفر بها، وكناقة صالح، التي هلك بها قومه، ثمود.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} إشارة إلى أن العقاب سيقع بالمكذبين من غير مهل، لو نزل الملك من السماء، كما اقترحوا.. ثم كذبوا!
ولكن اللّه سبحانه وتعالى، لم يستجب لمقترحهم هذا، تكريما للنبىّ الكريم، وتحقيقا لوعده الذي وعده في قوله: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [33: الأنفال].
وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} أي لو جعلنا الرسول المرسل إليهم ملكا- كما يقترحون- لجعلناه في أعينهم رجلا، أي لأنكروا وجود الملك بينهم، وتعذّر عليهم الحياة معه.. إنهم والملك طبيعتان مختلفتان، لا يقع الانسجام والاطمئنان بينهما، وإلى هذا أشار اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا} [95: الإسراء].
فقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا} يشير إلى اختلاف الطبيعة البشرية والطبيعة الملكية، وأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يبعث إلى البشر ملكا رسولا إليهم لاقتضت حكمته أن يلبس هذا الملك صورة البشر، حتى يسكن إليه الناس، ويكون بينه وبينهم لقاء وإلف.. فالجنس لا يألف غير جنسه، ولا يسكن إلا إليه.
وقوله تعالى: {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} أي ولو جاءهم الملك في صورة إنسان، لما ارتفع هذا اللّبس، وهذا الشك والوسواس، ولبقى حالهم مع الملك في صورة إنسان، هو حالهم مع الإنسان، يحمل رسالة من اللّه رب العالمين.
فالقضية بالنسبة لهؤلاء المعاندين، هى هكذا.
يطلبون أن يكون رسول اللّه إليهم ملكا من ملائكة الرحمن.
والملك غير ممكن أن يلقوه على صورته.. بل لا بد أن يكون على صورة إنسان.
والإنسان في نظرهم هو الإنسان.. سواء أكان ملكا تحوّل إلى إنسان أم كان إنسانا أصلا.
وإذن فالمشكلة قائمة عندهم، والشك منعقد عليهم.. لا يؤمنون برسول إنسان، ولن يكون الرسول إلا إنسانا منهم.
وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} هو مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء له، مما يلقى من المشركين من عناد، وما يساق إليه منهم من ضر وأذى.. فتلك هى سبيل حملة الهدى من عباد اللّه.. فكم لقى رسل اللّه من أقوامهم من عنت وبلاء، حتى لقد قتل بعضهم، ومثّل به أشنع تمثيل.. ولكن العاقبة للحق والخير، والنصر لدعوة الحق والخير.. والويل والخذلان والخزي لأولئك الذين كذّبوا برسل اللّه وسخروا منهم واستهزءوا بهم.. {فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي أحاط بهم واشتمل عليهم استهزاؤهم وسخريتهم، فهذا الاستهزاء هو الذي أوردهم موارد الهالكين في الدنيا، وأنزلهم منازل أصحاب النار في الآخرة.
فإن شك هؤلاء المكذبون، المستهزءون بآيات اللّه وبرسول اللّه.. إن شك هؤلاء في المصير الذي هم صائرون إليه، فلينظروا فيما كان لأمثالهم، الذين كذبوا بآيات اللّه وبرسل اللّه، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} لقد أخذهم اللّه بكفرهم وعنادهم، وأرسل عليهم الصواعق، وصبّ عليهم البلاء، وإذا هم في لحظة خاطفة جثث هامدة، وأشلاء ممزقة.. وإذا هم صائرون إلى مصير يلقون فيه العذاب الأليم.. {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.


{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} هو سؤال من الحق جلّ وعلا، على لسان نبيّه الكريم، وهو سؤال وارد على خاطر كل ذى لبّ.. فهذا الوجود بما فيه من عجائب وغرائب، لا يمر عاقل على آية من آياته، إلّا وقف عندها، ونظر فيها، واجتهد في التعرف على أسرارها.. ثم سأل نفسه أو سألته نفسه، عن صانعها: من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟
وما تزال هذه الأسئلة تلحّ عليه حتى ينسب هذا الوجود إلى صانع عظيم قدير، ليس كمثله شىء، لا يسأل عنه: بأين؟ ولا كيف؟.. إذ هو فوق كل أين، وغير كل كيف.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ} هو جواب قاطع، لا جواب غيره، عن هذا السؤال، الذي مطلوب من كل عاقل أن يسأله نفسه، وأن يجيب عليه.
وسيهديه نظره وعقله إلى هذا الجواب الذي أجاب به الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ} فالمالك لهذا الوجود، القائم على كل موجود، هو اللّه رب العالمين، لا شريك له في سلطانه.
وقوله تعالى: {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي الذي كتب على نفسه الرحمة،- وتلك صفة من صفات اللّه- هو الذي له ما في السموات وما في الأرض.
ومعنى كتب على نفسه الرحمة، أي أوجبها سبحانه وتعالى على نفسه، حيث اقتضتها حكمته، واستدعاها فضله.
فالملك الذي بين يدى المالك سبحانه وتعالى، هو من آثار رحمة اللّه.. تلك الرحمة العامة الشاملة التي تمسّ كل مخلوق، وتنال البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.. ولو لا هذه الرحمة لما تنفس الكافر نفسا في هذه الحياة، ولما أمهل في محادّته للّه، وعدوانه على رسله، ولكن رحمة اللّه التي وسعت كل شىء، لم يحرم الكافر نصيبه منها، فأفسح اللّه له في الحياة، ليرجع إليه، ويصلح من أمره ما أفسده.
فإذا مضى الكافر على كفره، ثم أخذ بذنبه، كان من رحمة اللّه أن يؤدب وأن يعاقب، ففى هذا العقاب إصلاح لنفسه التي فسدت، وصقل لمعدنه الذي أكله الصدأ! وقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} في توكيد الفعل {ليجمعنكم} بالقسم وبنون التوكيد، إشارة إلى أن البعث أمر كتبه اللّه سبحانه وتعالى على نفسه، كما كتب الرحمة، وأن البعث هو رحمة من رحمة اللّه، إذ هو إعادة الحياة التي ذهب بها الموت، والحياة نعمة من نعم اللّه، ورحمة من رحمته.. إنها نعمة تستوجب الشكر، والحمد للّه رب العالمين: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28: البقرة].
وفى تعدية الفعل {ليجمعنكم} بحرف الجرّ {إلى} إشارة إلى أن الجمع هو استدعاء من جهات شتى، ودعوة قاهرة إلى مكان معلوم، تصبّ فيه وفود المدعوين، وتجتمع إليه.. فمعنى الجمع، هو السّوق، أي ليسوقنكم إلى يوم القيامة، إذ كان يوم القيامة هو موعد اللقاء الذي يلتقى عنده الموتى، المبعوثون من القبور.. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [51: يس].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أن الفساد الذي اشتملت عليه نفوس أهل الضلال، هو الذي حجبهم عن الإيمان، وصار بهم إلى طريق الكفر والضلال.. وهذا يعنى أن في الكافرين- قبل كفرهم- نفوسا مهيأة لهذا الكفر، مستعدة له، لما فيها من فساد، وهذا الفساد من شأنه أن يرفض الطيّب، ويقبل الخبيث الفاسد، الذي يلائمه، ويتفاعل معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [10: البقرة].
وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فهذه قلوب لا تقبل خيرا، ولا تمسك به، ولهذا ختم اللّه عليها، فلم يسمعها كلماته، ولو أنها سمعت كلمات اللّه ما قبلتها ولا استجابت لها.
وقوله تعالى: {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} هو استكمال للجواب الذي أجيب به على قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فكأنه قيل: قل للّه ما في السموات وما في الأرض، وله كذلك ما سكن في اللّيل والنهار، أي ما اشتمل عليه الليل والنهار من موجودات.
فكل ما طلع عليه النهار، واستولى عليه سلطان الضوء، وكل ما غشيه الليل، واستولى عليه سلطان الظلام، هو في ملك اللّه، وتحت سلطان علمه وسمعه.


{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}.
التفسير:
الولىّ: السيد، والمعين.. فاطر السموات والأرض: أي خالقهما ابتداء.
وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} استفهام إنكارى، وكأنه ينكر على نفسه أن تدعوه إلى أن يتخذ من دون اللّه وليّا ومعينا، أو ينكر على غيره أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة.
والمعنى: إنى لا أتخذ وليّا ومعتمدا أعتمد عليه، وأستعين به، غير اللّه، ذى الحول والطول، وذى القدرة التي لا يعجزها شى.. تلك القدرة التي كان من صنعتها هذا الوجود كلّه، في سماواته وأرضه، أوجدهما- سبحانه- ابتداء على غير مثال {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وهذا الاستفهام الإنكارىّ، أقوى قوة، في إظهار الولاء الخالص للّه، والثبات عليه- من الخبر التقريرىّ بالولاء، إذ فيه إنكار لموالاة غير اللّه أولا، ثم إقبال على موالاته سبحانه، ثانيا، وفى هذه العملية إثارة للعقل وتحريك للوجدان، ومواجهة لمن يدعوهم الدّاعون أن يتخذوا أولياء من دون اللّه.. حتى إذا أنكرهم العقل ولفظهم الشعور، أقبل المرء على اللّه، وقد صفّى حسابه مع هذه الضلالات القائمة على طريقه إلى اللّه، فيلقى ربّه بكيانه كله، ويلقى إليه بولائه خالصا.
وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي فاللّه المستحقّ لأن يتخذه الناس وليّا، ومعتمدا، هو الذي فطر السموات والأرض، وهو الذي يقوت المخلوقات ويطعمها، ويمدّها بما يحفظ وجودها، دون أن يكون لهذا مقابل.
وإنما هو فضل وكرم من ربّ العالمين، المستغنى عن كلّ عون، الغنىّ عن كل مخلوق.. وكيف لمن كان مصدر العطاء أن يكون محتاجا إلى عطاء؟
وكيف لمن يستمدّ منه العون أن يكون محتاجا إلى معين؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} هذا ما أمر به النبىّ من ربّه، وهو أن يكون أول من أسلم وجهه للّه، وأول من ألقى بنفسه بين يديه، ووالاه.. إذ كان صلى اللّه عليه وسلم- هو مفتتح دعوة الإسلام، وحامل رسالتها إلى المسلمين، فكان أول من آمن بها، واستقام على هديها.. وذلك بعد أن استدلّ على خالقه بتفكيره في خلقه، وأنكر أن يتحذ وليّا من دونه، وهو الذي فطر السموات والأرض.. وهو الذي يطعم ولا يطعم، فإذا جاءت دعوة اللّه تعالى إليه صادفت تلك الدعوة قلبا مستقبلا لها.
والأمر هنا، هو الدعوة إلى الإيمان باللّه، من اللّه، وإلى نبى اللّه، وليس في هذا الأمر إلزام ولا قهر، ولكن النبىّ الكريم في استجابته لربّه، وفى مبادرته إلى الاستجابة، واحتفائه بها، وشدّ نفسه إليها، وعقد قلبه عليها كل أولئك قد جعل الدّعوة الإلهية أمرا يتلقّاه النبىّ بكيانه كله، ويعطيه كل ما قدر عليه من قوة وعزم.
وقوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هو عطف على الأمر المفهوم من قوله تعالى: {أُمِرْتُ} أي أن اللّه سبحانه وتعالى أمرنى بأن أكون أول من أسلم، فقال لى: كن أول من أسلم، ونهانى عن أن أشرك به فقال لى: ولا تكوننّ من المشركين.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
هو بيان لبعض دواعى الإيمان باللّه في نفس النبىّ، وفى نفس كل مؤمن باللّه، وهو أن الخوف من عذاب اللّه يوم القيامة، وطلب النجاة من هول هذا اليوم، هو داع صارخ يدعو الإنسان إلى أن يهرب من هذا البلاء، إلى الإيمان باللّه، واستجابة دعوته التي يدعو بها عباد اللّه.. فمن أبى، وعصى أن يستجيب للّه ويؤمن باللّه، فهذا يوم الحساب أمامه، والنار مثواه.
وقوله سبحانه: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} أي أن من ينجو من عذاب هذا اليوم، ويسلم من الوقوع تحت وطأته- فهذا من فضل اللّه عليه، ورحمته به، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان باللّه، والولاء له، والامتثال لأمره.. {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} إذ لا فوز بعد هذا الفوز، ولا ربح أعظم من هذا الربح.. حيث خلص الإنسان بنفسه من العذاب، ثم لم يقف به الأمر عند هذا الحدّ من الفوز والفلاح، بل أخذ بيده بعد هذا إلى جنات النعيم، وإذا هو فيمن رضى اللّه عنهم، وأفاض عليهم الجزيل من عطاياه ومننه.. {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}.
!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8